للشوارع والارصفة قدره عجيبة في رسم وتشكيل الصورة الذهنية والعاطفية التي تربطنا بالمدن التي نزورها او نعيش فيها. تقول جان جاكوبس انها اهم الفضاءات العامة في المدينة. فهي أيضا فضاءات ثقافية واجتماعية تعكس صورة الحياة اليومية للمدينة وتظهر فيها ثقافة واعراف المجتمع بصورة واضحة. ولذلك فبالرغم من أهمية الجودة البصرية والجانب الشكلاني لعمران المدينة إلا أن الجوانب الثقافية والاجتماعية هي ما يشكل في الحقيقة شخصية وروح المدينة وهو ما يجعلها مختلفة ومتفردة عن غيرها من المدن. أعني هنا العلاقة بين المكون المادي للمدينة وفضاءاتها مع الحياة اليومية للناس وانعكاس موروثهم الثقافي الذي يشكل انماطهم المعيشية وآلية تكيفهم مع البيئة المبنية. وبالتالي فإن مراعاة هذه الابعاد في التصميم العمراني مهم للوصول الى عمران يستجيب للحالة الثقافية والاجتماعية
كانت مدرسة شيكاغو لعلوم الاجتماع في بدايات القرن العشرين من أوائل من سعى لفهم هذه العلاقة التي تربط الانسان ببيئته المبنية ضمن السياقات الثقافية والاجتماعية، ونتج عن ذلك ما يسمى بعلم الاجتماع الحضري والذي يسعى الى تكوين قاعدة معرفية من خلال العمل على منهجيات علمية وآليات إثنولوجية لقراءة وتحليل السلوك البشري والاجتماعي في البيئة المبنية ليستند عليها المخطط والمصمم العمراني. تطورت هذه المنهجيات عبر العقود وأصبحت جزء رئيسي في عمل التصميم العمراني ولذلك يقوم اليوم الممارسين في التصميم العمراني بعمل مسوحات ميدانية متخصصة تعنى برصد وتحليل استخدام الناس للفضاء العام والتفاعلات الاجتماعية والثقافية والمكانية للاستناد عليها عند وضع البدائل التصميمية وهذا المنهج في التصميم العمراني يسمى الـ
من المهم جدا الانتباه هنا الى ان البعد الثقافي والعرف الاجتماعي ليست في حالة من السكون والثبات الدائم بل على العكس هي في حالة من التغير والتجدد المستمر حيث تتم مفاوضتها وإعادة تشكيلها من قبل افراد المجتمع أنفسهم. وهذا ما يعني ان هذه الابعاد الثقافية والاجتماعية في المدينة خاضعة لعامل الزمن وحالة التغير والمفاوضة المستمرة. وبالإمكان هنا الاستشهاد بالحالة السعودية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة والتحولات المتسارعة على الصعيد المجتمعي والثقافي. فعلى سبيل المثال، اتسمت المدينة السعودية وعلى مدى عدة عقود من الزمن بحالة “جندرية” خاصة تقوم على أساس فرض مبدأ الفصل الجنسي بين الرجل والمرأة وبشكل صارم في جميع فضاءات المدينة شكلت من خلالها شخصية “ذكورية” للفضاء العام. ولكن التحولات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها المدينة السعودية اليوم اعادة تشكيل وتكوين هذه الصورة الذهنية، حيث تحول الفضاء العام في المدينة السعودية من فضاء ذكوري تمنع فيه ثقافة “العيب” تواجد المرأة الى فضاء “مختلط” تلعب فيه المرأة دورا أساسيا في تشكيله.
ولذلك وفي سياق التصميم العمراني، فان الكثير من المفردات الثقافية ومنها مثلا – “الخصوصية” – والتي شكلت الصورة العامة للشخصية والشكل الذي يجب ان تكون عليه المدينة السعودية خلال العقود الماضية هي أيضا يجب ان تكون مرنه وخاضعة لإعادة التعريف والتشكيل.
العمران المرن وحالة التغير الثقافي
المفارقة التي أحاول ان اشير اليها هنا هي ان عملية الاستجابة للعوامل الثقافية والاجتماعية في التصميم العمراني تقوم على أساس قراءة وتحليل هذه الابعاد والأعراف المجتمعية “اليوم”، ويتم من خلال هذه القراءات تقديم الفضاء العام حيث يبقى هذا الفضاء العام قائما وثابتا ولكن محاطا بحالة ثقافية واجتماعية متغيرة ومتجددة. ولذلك فان التعامل مع الابعاد الثقافية والاجتماعية في العمران هي عملية غاية في الحساسية حيث ان الافراط في تضخيمها والاستجابة الدقيقة لها قد يوقعنا في اشكالية تجميد هذه الابعاد الثقافية والاجتماعية في سياق زمني معين وتقديم فضاءات عامة لا تستجيب لحالة التغير المستمر وهو ما قد يؤدي الى الجمود العمراني
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
د.محمد محمود
معماري وعمراني وباحث مختص بأنسنة المدن، مهتم بالجوانب الثقافية والاجتماعية والإنسانية التي تتقاطع مع عمران المدينة