تجربة البعد الثقافي في المملكة العربية السعودية ، قراءة لتجربة مدينة الظهران.
يعد البعد الثقافي في العمارة معدنا قابل للطرق والسحب تماما كالحديد. فمن جهة ترى بعض التيارات الفلسفية في العمارة انه مقتصر على العمارة التراثية في منطقة جغرافية ما، وترى تيارات عملية أخرى ضرورة شموليته لكل ما يصل إليه مستخدم من دون الاقتصار على الجانب المادي له وشمولها للبعد العالمي أيضا. ومن هنا أتت معضلة تعيين البعد الثقافي في المملكة العربية السعودية وعزوف المقال عن التحديد الحرفي القاتل للمعنى في تعريف مختزل واللجوء الى لغة شعراء العرب القديمة في الوصف عن طريق التشبيه والاعتماد على قوة مخيلة القارئ السعودي . يقول الكاتب: لا أعرف ما يعنيه البعد الثقافي في عمارة المملكة العربية السعودية عينا، ولكنني أعايش الإحساس به معنا وفكرة يوميا.
"لربما أنك باحث في الاغصان عما لا يظهر إلا في الجذور"
- جلال الدين الرومي
منذ أن شهدت المملكة العربية السعودية ولادة شركة أرامكو السعودية الغنية عن التعريف في بدايات الثلاثينيات وحتى يومنا هذا، تمحورت مبادئ الشركة في غرس نجاحاتها في محيطها الجغرافي ابتداء بالظهران وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وانتهاء بشواطئ الدمام والخبر، ولم يكن سهم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي – إثراء – إلا رأس سهم تمت صناعته في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وإطلاقه بالأمس.
وليس الحديث هنا عن إنجازات الشركة المادية وانما عن دورها في حصاد ضمني لما زرع في قلوب مواردها البشرية سواء في المنطقة الشرقية أو من زوارها وقاطنيها حتى أصبح شعارا لهم، الجدير بالذكر هنا أن الغائب هو ما أنشأ الحاضر في تحول وديمومة مستمرة، ثم أعطاه (الغائب) رونقا ثقافيا عميقا يتجذر من أعماق القائمين على هذه المنظومات بشكل قد لا أبالغ بوصفه أسطوريا، يتجلى بوضوح في مثال مدينة الظهران الاقتصادي الأحادي وتحوله إلى الثنائية الاقتصادية الاجتماعية للمنطقة الشرقية.
بوصفي أحد أبناء موظفي شركة أرامكو السعودية ، كنت أجهل سبب قيام أمي بالحرص على زيارتي لمعرض الزيت في معرض الطاقة في العاشرة من عمري، وحرصها على زيارتي لمعرض الديناصورات للأطفال، ودراستي في البرامج الصيفية لتعليم اللغة الإنجليزية والرياضيات، وقد توهمت أن ذلك لا يخلو من حرص أم على نشأة ابنها ومواكبته لأفضل الفرص التعليمية الممكنة ومواصلة خطة سير أبيه، اعتقدت براءة.. ربما كمهندس بترول.
وبعد إتمامي لمرحلة البكالوريوس في تخصص العمارة وأثناء دراستي لمرحلة الماجستير في تخصص التصميم الحضري، كنت شاهدا وحيدا في أحد المحاضرات المتقدمة في الاستدامة في جامعة واشنطن. – مدرسة سام فوكس للفن البصري والتي تقع في ولاية ميزوري الأمريكية وتحديدا في مدينة ساينت لويس- سألني رئيس القسم في منتصف سرده، لأهمية الزيت في تنصيب أولويات المنطقة؟ ما الذي فرضه عليك سكنك طوال حياتك في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية الموصوفة بكثرة الزيت؟ لم يتبادر إلى ذهني يومها سوى إجابة واحدة، تعلمت الانضباط في الطلب.
تعجب البروفيسور لإجابتي وسألني مجددا كيف ذلك؟ أجبته بقصر عمر المدينة الصناعية نسبيا فلا يتجاوز عمر مدينة الظهران الـ٦٠ سنة دلالة على صغرها ومعايشتي لتطوراتها وقد كان أبي -رحمه الله- كمعظم قاطنيها يخرج للعمل فجرا ويعود للمنزل قبيل غروب الشمس بساعة أو أقل، وقد أصَل ذلك صورة ذهنية في عقلي للانضباط في الطلب.
وأستشف اليوم من طلابي كمحاضر في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل لقسم العمارة أن معظم سكان المنطقة يتميزون بما يشابه ما ذكرت من ثقافة الانضباط وإبداع المخيلة الفكري، ربما عادت جذوره جزئيا إلى رؤية بعيدة النظر لقائم على عمل في معرض الديناصورات للأطفال قد كان سابقا لأوانه في التسعينات يومها، قد آمنوا بأهمية ما وراء برغماتية ذلك المعرض.
وأعلم أيضا أن والدتي كانت أحد أولئك الحالمين بمستقبل ممتد لأفق أوسع من نطاق المنطقة نراه اليوم حاضرا في رؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠ ، لا يخلو ما نشهده اليوم من ذاكرة جمعية(كما قد يصفها مؤسس علم النفس التحليلي كارل قوستاف يونغ) ممتدة لجميع مناطق المملكة في جوانب العمارة والعمران، الهوية والإنسان، من بذور عائدة لتلك المدن الملهمة بالطابع الصناعي المتصفة بالبساطة التصميمية وشدة التركيز على نجاعة الوظيفة والاستدامة ملخصة في ميثاق الملك سلمان للعمارة السلمانية.
ومن إعادة لهيكلتها في عدة مدن مثل الجبيل الصناعية وينبع، وانتهاءه بهجرة تتمحور في مقر إدارة أرامكو السعودية في مركز الملك عبدالله المالي ناشرة بذلك ثقافة وطنت مفهوم السعودية العملية.
"المدينة العظيمة هي أفضل عضو في ذاكرة الانسان حتى الآن"
- لويس ممفورد / ناقد وفيلسوف مهتم بدراسة المدن
عودا على بدء في البعد الثقافي في العمارة الذي يتضح في مثالنا المذكور بأنه ليس إلا نتيجة لتلاقح مصادر مادية وفكرية شكلت نسيج الحمض النووي لمخيلة السكان في المنطقة.
بدأت في صيغة معلم لصبيان في مجهود جانبي للقائمين في نظام الشركة تحاول إثراء الجانب الاجتماعي في محيطها عن طريق إنشاء المعارض والمدارس النموذجية، ثم تحولت بمحض رؤية عميقة للقائمين بهذا العمل – ممن لا نستطيع حصر أسماءهم في يومنا هذا – إلى صرح ومعلم معماري الذي هو مركز إثراء الثقافي كما ذكرنا معنى ومضمونا لتلك الرؤى النقية إن صح التعبير. وإن صحت النبوءة المذكورة آنفا فلابد من تمخض جديد لذلك الصرح المادي للعودة الى حلم التجربة المعنوية وولادة جديدة لا تتسم بالبعد الفراغي من أقواس وقبب ومنارات وأشكال هندسية غير منتظمة، ربما اتسمت بصفة ذكاء صناعي سعودي؟!
تتزعم المملكة العربية السعودية اليوم مثال المدينة الفاضلة الأحدث في تجسيدها لرؤيتها المستقبلية في مدينة نيوم (ذا لاين) ولا يخفى على القارئ ما تشمله هذه المدينة الحاضنة لعدة ثقافات تحت مظلة الثقافة السعودية من أحدث التقنيات في علم البناء والاستدامة ، ودورها الا محدود في رفع المستوى لبناء المدن عالميا وجذريا رغم المخاطر.
وعلاقة هذا المشروع النوعي في نشر خلاصة الثقافة المعمارية السعودية إلى السحابة المعلوماتية الإلكترونية في صيغة جسدية لحلم الذكاء افتراضي مستمر التطور، ولربما استحالت رؤية ما تشهده المملكة العربية السعودية من ريادة لهذه النظم شديدة التعقيد في زمن ليس ببعيد، لكنها وبفعل الانضباط المستمر في الطلب تقترب اليوم مما كانت تنظره في الغد، وبذلك تأصل بلادي المعنى الحقيقي لبعدها الثقافي في العمارة وصناعة المدن والذي تصدَره رسائل عظمة المشهد الحضري من تلك المدن البسيطة المتمحورة حول المساجد وتلك الأحياء المحاكية لبيت الله الحرام، ذاكرة لحلم هوية الإنسان جذوره سعودية عربية وفروعه تصل لكل من يعيش على هذه المستديرة.
أكتب اليوم لأشكر أولئك الذين تحملوا ريح العاصفة، الذين لم يعودوا معنا اليوم من معلمين استثنائيين بالتجربة استطاعوا النظر لما وراء تلك العواصف الرعدية بمنظار الإيمان وعينا الأمل، وتوجيهنا رأسا إلى ما ورائها، فبصرهم اليوم حديد.
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
يوسف سعيد السعيد
مصمم حضري - ماجستير جامعة واشنطن في ساينت لويس