في الحقيقة ما يشدني ويحفز فضولي المعرفي هي تلك المناطق التي تلتقي وتتقاطع فيها العلوم والتخصصات المختلفة بعضها ببعض، حيث يتشكل من خلال هذه المناطق مساحة خصبة لتكوين رؤى معرفية جديدة ذات زوايا وابعاد متنوعة وعادة ما تكون ذات طبيعة مبتكرة وثورية. فعلى سبيل المثال، المساحة التي يتقاطع فيها عمران المدينة مع علم النفس وكذلك علم الاعصاب، نتج عنها ما يسمى بـ علم الاعصاب العمراني (Neuro-Urbanism)، وهو علم يهدف الى فهم العلاقة بين جودة البيئة المبنية وتأثيرها على الصحة النفسية والعصبية والذهنية لسكان المدينة. يقوم هذا العلم على الأساس التجريبي، وذلك من خلال تجارب ميدانية تتحول فيها فضاءات المدينة الى “مختبرات عمرانية نفسية” يقاس فيها مستويات الحضور الذهني والادراك المكاني والحسي للإنسان وارتباطها بجودة البيئة المبنية.
أحد رواد هذه المدرسة هو أستاذ علم الاعصاب كولن إلارد ، حيث يقدم في كتابه قراءة علمية عميقة وممتعة حول جغرافية النفس والحياة اليومية للإنسان في الفضاءات العامة
أمكنة القلب: الحياة اليومية وجغرافية النفس
يسلط الكتاب الضوء على الدور الذي تلعبه العمارة والعمران في تشكيل محفزات بصرية تساعد في التأثير على إدراك الانسان للبيئة المبنية والتي بالتالي تؤثر على صحته النفسية والعقلية كما تقوم كذلك على تحفيز ذهني للقيام بأنشطة وسلوكيات حضرية مختلفة. ولذلك فإن للبيئة المبنية دور مؤثر وبشكل قوي على أفكارنا ومشاعرنا وكذلك على أنشطتنا المختلفة التي نمارسها في الفضاءات العامة. يستعرض الكتاب في فصولة الثمانية رحلة عمرانية نستكشف من خلالها تفاعل الذهن والنفس مع مكونات المدينة المختلفة والمشاعر التي تكونها لنا الفضاءات والأمكنة، او كما اسماها كولن – فضاءات العاطفة، فضاءات النشوة، فضاءات الملل، فضاءات القلق، وفضاءات الخوف.
استوقفني كثيرا الفصل الرابع وهو بعنوان فضاءات الرتابة والملل. حيث يسلط هذا الفصل الضوء على الدور النفسي الذي يلعبه الرصيف والجودة العمرانية لحواف المباني المحاذية للرصيف وتحديدا الدور الأرضي. فيذكر كولن ان للجودة البصرية وكذلك التنوع في وظائف الدور الأرضي دور مهم في رفع مستوى “الفضول والدهشة” لدى المشاة، ويفسر الكتاب حالة “الفضول العمراني” بتلك التي يتوقف فيها المشاة بشكل عفوي، يقوم خلالها باستكشاف محيطه العمراني وإدراك بصري لما تقدمة البيئة المبنية من خيارات وانشطة مختلفة. يشير كولن الى أهمية البيئة المبنية في تحفيز هذا النوع من الفضول العمراني في الحياة اليومية لسكان المدن حيث انها تنعكس إيجابا على ما اسماها بحالة الرضى واليقظة الحميدة للجهاز العصبي للإنسان. في المقابل ينظر كولن الى الدور الذي تلعبه البيئة المبنية ذات المباني الممتدة والمغلقة والاحادية الوظيفة على الحالة النفسية – وتحديدا مستويات الملل والتوتر – لسكان المدينة والتي تتقاطع حياتهم اليومية مع تلك البيئات
يربط كولن العلاقة بين الادراك البصري للإنسان في البيئة المبنية ونظرية المعلومات , وهي نظرية بدأت في علوم الرياضيات التطبيقية والتحويل الكمي للمعلومات – حيث يجد كولن ان إدراك الانسان للمحيط العمراني قائم على قدرة الذهن على تفسير “العناصر/المعلومات” المكانية والاجتماعية التي تقدمها البيئة المبنية بشكل كلي او جزئي وبالتالي التفاعل معها. أي ان تواصل البيئة المبنية مع الانسان قائم على ما تقدمه هذه البيئة من “معلومات” والتي بدورها تشكل محفزات بصرية تؤثر وتتفاعل مع الذهن والنفس. فعلى سبيل المثال، فإن المشي والمرور بمحاذاة مبنى ممتد احادي الوظيفة ذو ملامح وعناصر بصرية محدودة ومتكررة تشكل حالة من الرتابة الملل، ويفسر كولن ذلك بسبب توقف عملية “التبادل المعلوماتي” بين البيئة المبنية والانسان وذلك بسبب حالة اللاجديد في المعلومات التي تقدمها هذه البيئة. وبالتالي فان ما يقدمه كولن هنا يجعلنا نعيد النظر في ان مرحلة تصميم الفضاءات المعمارية او العمرانية بالإضافة الى أهميتها الوظيفية والشكلانيه، الا انها كذلك عملية مبكرة لتأسيس شبكة معلوماتية تواصلية للعلاقة بين عناصر المكان/الفضاء والادراك الذهني والحسي للإنسان الذي سيسكن او سيستخدم هذه الفضاءات
يختتم كولن هذا الفصل في ان للمدينة وفضاءاتها العامة انعكاسات على الصحة العامة للناس، ولذلك فان خطورة ما يسميها كولن بـ “الشوارع التعيسة” هي في انعكاساتها السلبية على الحالة النفسية والعصبية للإنسان. ولذلك فإن بناء مدن صديقة للإنسان أصبح اليوم مطلب صحي ونفسي.
يختتم كولن هذا الفصل في ان للمدينة وفضاءاتها العامة انعكاسات على الصحة العامة للناس، ولذلك فان خطورة ما يسميها كولن بـ “الشوارع التعيسة” هي في انعكاساتها السلبية على الحالة النفسية والعصبية للإنسان. ولذلك فإن بناء مدن صديقة للإنسان أصبح اليوم مطلب صحي ونفسي.
أنسنة المدن ليست ترفا عمرانيا
تقوم فكرة أنسنة المدن – ولا أعنى هنا ان يختزل مصطلح الأنسنة على مدن المشاة فقط – وإنما على أساس تقديم المدينة من خلال عمران متوازن تكون فيه البيئة المبنية مشجعة ومحفزة وصديقة للإنسان بمختلف انشطته واحتياجاته ووسائل نقله الحضرية. وبالنظر الى ما يقدمه كولن إلارد في كتابه الذي يحلل العمران من زاوية متخصص بعلم الاعصاب، يتضح إرتباط أنسنة المدن كمنهج عمراني بالصحة النفسية والذهنية للإنسان. حيث يقدم لنا هذا النوع من الابحاث قاعدة معرفية غنية تتقاطع فيها العمارة والعمران والصحة النفسية وتشكل لنا تصوراً يقودنا في إعادة ترتيب اوليات العمران وبناء المجتمعات. ولذلك فيمكن القول بأن الدعوة الى أنسنة الفضاءات العامة وصناعة مدن صديقة للإنسان ليست ترفا بل يجب ان تكون أحد “الحقوق العمرانية” والمقومات الاساسية لبناء مجتمع صحي ومتوازن.
في الحقيقة تفتقر المدينة العربية لمثل هذا النوع من الدراسات والأبحاث العمرانية الميدانية والتي لا تقوم على أساس عاطفي يغلب عليه التحيز والحنين لصورة المدينة العربية التقليدية ولا تنطلق من منظور شكلاني يختزل عمران المدينة بالجماليات المكانية. نحن اليوم بحاجة الى فهم أعمق للعلاقة التي تربط الانسان بمدينته ضمن مختلف السياقات المكانية والثقافية والاجتماعية والصحية وكذلك “الرقمية”، وهذا لا يمكن التوصل اليه الا من خلال تشجيع تداخل وتناغم مختلف التخصصات مع العمران والحياة اليومية في المدينة. حيث أنى شخصيا لا اعتقد انه بالإمكان اختزال عمران المدينة من خلال تخصص مفرد ولا اعتقد انه بالإمكان تحديد ملامح واطر ثابته لحدود العلوم الاجتماعية او الطبيعية التي تتقاطع مع الجوانب المعرفية لعمران المدينة. وإنما يجب ان تبقى الحدود والحواف المعرفية للعمران مرنة في تقاطعها مع التخصصات الأخرى وقابلة للتغير والتكيف مع مختلف الابعاد المعرفية والعلمية
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
محمد المحمود
معماري وعمراني متخصص في أنسنة المدن حاصل على درجة الماجستير في التصميم العمراني من جامعة واشنطن في مدينة سانت لويس الأمريكية عام ٢٠١٢. ودرجة الدكتوراه في التصميم العمراني وعمارة البيئة من جامعة كوبنهاجن .
يعمل حاليا كباحث ما بعد الدكتوراه في جامعة كوبنهاجن بالدنمارك واستاذ العمارة والتصميم العمراني المساعد بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الامام عبدالرحمن بن فيصل بالدمام.